في أقدس بقاع الأرض، حيث تسكن الطمأنينة القلوب وتغمر السكينة الأرواح، أخذت المملكة العربية السعودية على عاتقها شرف خدمة ضيوف الرحمن، فنسجت من الاهتمام والرعاية مسيرةً تاريخيةً متصلة، جعلت رحلة الحج والعمرة تجربة إيمانية تنبض بالروحانية وتزدان بيسر الخدمات، في مشهد لا يتكرر إلا على هذه الأرض المباركة.
ومنذ اللحظة الأولى التي أعلن فيها الملك الموحد عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود –طيب الله ثراه– توحيد المملكة العربية السعودية عام 1932م، أدرك أن بناء الدولة الجديدة يكتمل برعاية الحرمين الشريفين وخدمة ضيوف الرحمن. فجعل من هذه المهمة شرفًا وواجبًا، ورسالةً تتوارثها الأجيال.
البدايات الأولى
كان الملك الموحد أول من أطلق العمل في هذا الطريق، حين أمر عام 1344هـ بترميم المسجد الحرام ترميمًا شاملًا، تلاه إصلاح قبة زمزم، ومظلة مقام إبراهيم، وشاذروان الكعبة المشرفة. كما أمر بإنشاء سرادقات في صحن المسجد لتقي المصلين من حرارة الشمس، في مشهد مبكر يجسد كيف جمع بين البساطة في الأدوات والرؤية العميقة للمستقبل. ومنذ تلك اللحظة، باتت التوسعة والعمارة والاهتمام بالمسجد الحرام والمسجد النبوي تقليدًا ثابتًا لدى كل ملك من ملوك المملكة.
ففي عهد الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود، شهد الحرم المكي أول توسعة شاملة حديثة عام 1375هـ، حيث أضيفت الأقبية والطابق الأرضي والطابق الأول، مع بناء المسعى بطابقيه وتوسعة المطاف، وتحويل بئر زمزم إلى القبو. كانت تلك بداية مرحلة جديدة من التوسعة التي استوعبت أعدادًا متزايدة من الحجاج.
تعزيز العمارة وتوسعة المطاف
ثم جاء عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، فأمر عام 1387هـ بإزالة البناء القائم على مقام إبراهيم لتوسعة صحن المطاف، ووضع المقام في غطاء بلوري، وبنى مكتبة الحرم المكي الشريف، كما أُنشئ مصنع كسوة الكعبة في موقعه الجديد بأم الجود عام 1392هـ. ومع تولي الملك خالد الحكم، استُكملت التوسعة الأولى، وتم افتتاح مصنع الكسوة رسميًا بعد تجهيزه، كما أُعيد تبليط المطاف برخام مقاوم للحرارة جُلب خصيصًا من اليونان، ما منح الطائفين راحة أكبر أثناء أدائهم للمناسك.
نقلة كبرى في التوسعات
دخل الحرم المكي في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، مرحلة توسعات ضخمة، عُرفت بالتوسعة السعودية الثانية عام 1409هـ، وشملت ساحات بمساحة 88 ألف متر مربع، وتوسعة المسعى، وإنشاء جسور وممرات لتيسير حركة الحجاج.
وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود، أطلقت عام 1432هـ أكبر توسعة في تاريخ المسجد الحرام بتكلفة قاربت 200 مليار ريال، رُفعت من خلالها الطاقة الاستيعابية للحرم إلى مليون وثمانمائة وخمسين ألف مصلٍ، فيما ضاعفت الطاقة الاستيعابية لصحن الطواف ثلاث مرات. لم تكن هذه مجرد توسعة عمرانية، بل نقلة نوعية في كل أنظمة الحرم من التكييف والإضاءة والصوت، إلى تهيئة الممرات والبوابات والمرافق.
عصر التحول النوعي
وفي عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وصاحب السوم الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظهما الله-، دخلت مشاريع الحرمين مرحلة جديدة عنوانها الابتكار والحداثة. فقد أُنجز “الرواق السعودي”، الذي يحيط بالكعبة المشرفة ويضم أربعة طوابق، بطاقة استيعابية تصل إلى 287 ألف مصلٍ و107 آلاف طائف بالساعة. كما دُشنت التوسعة السعودية الثالثة التي تمتد على مساحة 1.56 مليون متر مربع، وتشمل أربع منارات بارتفاع 135 مترًا، و12 قبة متحركة، و680 سلمًا كهربائيًا، ما يجعلها واحدة من أضخم المشاريع الدينية في العالم.
أعداد قياسية وخدمات متكاملة
وعلى صعيد الأرقام، بلغت أعداد الحجاج في موسم 1446هـ (2025م) وفقاً للهيئة السعودية العامة للإحصاء نحو 1,673,230 حاجًا، بينهم 1.5 مليون من خارج المملكة. وأعلنت الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، أن عدد قاصدي وزوار الحرمين الشريفين خلال شهر رمضان للعام 1446 هـ، بلغ (122,286,712)، تمثل (16,558,241) معتمرًا، و(75,573,928) مصليًا في المسجد الحرام، فيما بلغ عدد المصلين في المسجد النبوي (30,154,543) مصليًا. هذه الأرقام تعكس قدرة استيعابية غير مسبوقة، تجسد نجاح منظومة متكاملة من الأمن والخدمات والصحة والنقل والتقنية الحديثة.
خدمة ضيوف الرحمن
ولم تتوقف الجهود عند البنية التحتية فقط، بل شملت إدارة متكاملة للحج والعمرة عبر “برنامج خدمة ضيوف الرحمن”، الذي يعمل بالتنسيق مع أكثر من 70 جهة حكومية وخاصة وغير ربحية. يهدف البرنامج إلى تيسير استضافة 30 مليون معتمر سنويًا بحلول عام 2030، من خلال تحسين الخدمات وتبسيط الإجراءات، وإثراء التجربة الثقافية والدينية للزوار. وقد درس البرنامج رحلة الحاج والمعتمر عبر 192 نقطة اتصال، واستطلع آراء أكثر من 20 ألف مسلم في 135 مدينة حول العالم، ليبني مبادراته على احتياجات فعلية وتجارب ملموسة.
رؤى المدينة
وفي موازاة هذه الجهود، أطلقت المملكة مشروع “رؤى المدينة” شرق المسجد النبوي، على مساحة 1.5 مليون متر مربع، يتضمن 47 ألف وحدة ضيافة، و63% من مساحته مخصصة للمناطق المفتوحة والخضراء. ومن المتوقع أن يوفر المشروع أكثر من 93 ألف وظيفة، ويضيف 140 مليار ريال للاقتصاد الوطني، في خطوة تؤكد أن خدمة ضيوف الرحمن لم تعد مقتصرة على تسهيل المناسك، بل تشمل توفير بيئة حضرية متكاملة للراحة والرفاهية.
قوة روحية
لم تكن عناية المملكة بالحرمين الشريفين شأناً داخليًا فحسب، بل شكلت ركيزة في سياستها الخارجية ومكانتها الدولية. فقد بات الحج والعمرة عنوانًا لصورة المملكة كقوة روحية وحضارية تتجاوز حدودها الجغرافية. كل عام، تستقبل المملكة حجاجًا من أكثر من 180 دولة، في مشهد يجسد وحدة الأمة الإسلامية. كما تحولت القدرة الفائقة على إدارة الحشود المليونية إلى نموذج عالمي يُدرّس في الجامعات ومراكز الأبحاث، بوصفه تجربة فريدة في الجمع بين التنظيم الحديث والروحانية الدينية.
وتنعكس هذه الجهود على صورة السعودية في المحافل الدولية، حيث ينظر العالم إليها باعتبارها الحارس الأمين لأقدس مقدسات المسلمين، والقادرة على تحويل التحديات اللوجستية والبيئية إلى إنجازات عملية. وبذلك، تواصل المملكة أداء رسالتها في خدمة الإسلام والمسلمين، وتضيف إلى رصيدها السياسي والدبلوماسي بعدًا إنسانيًا وحضاريًا فريدًا.
إرث خالد ورؤية ممتدة
إن استعراض هذه المسيرة الممتدة يكشف أن عناية المملكة بالحرمين الشريفين كانت مشروعًا حضاريًا متجددًا يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل. فمن الترميمات الأولى في عهد المؤسس، إلى التوسعات الكبرى في عهد الملوك اللاحقين، وصولًا إلى المشاريع الذكية والرؤى المستقبلية في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله-، تثبت المملكة أن خدمة ضيوف الرحمن شرف ومسؤولية تتجدد في كل عصر، وأن الحرمين الشريفين سيبقيان دائمًا في قلب الأولويات الوطنية والدينية للمملكة.
انت تقرأ هذا الموضوع في قسم رئيسي على موقعك المفضل البيان الاقتصادي نيوز.
كما يمكنم ايضا تصفح المزيد من الاقسام الهامة في موقعنا: